قراءة في " الموت السعيد" لألبير كامو"
- [هشام بن الشاوي]ـ المغرب ـ
- 21 janv. 2017
- 4 min de lecture

تُستهل رواية «الموت السعيد» للكاتب الوجودي "ألبير كامي"بقتل «زغرو» العجوز المقعد مبتور الساقين، على يد «مرسو» الفتى اليافع، وقد كان «يتأمل الجمال اللاّ إنساني كله لهذا الصباح النيساني»، لم يحول عينيه، لم يبد أية حركة، فقط ملأت الدموع عينيه، وجعل «مرسو» المسدس في يد القتيل، حتى تبدو الجريمة عملية انتحار، وغادر البيت متعثر الخطى جاف الحلق، حاملا الحقيبة، والجو صحو مشرق يوحي بأن «مهمة الإنسان الوحيدة التمكن في أن يعيش، وأن يكون سعيدا».
تنتقل الرواية إلى وصف صيف مدينة "الجزائر" ، والنهار يسحق الأرصفة بكل ثقل حرارته، ويكتب ألبير كامي عن إصابة أحد عمال الميناء، وكان «ايمانويل» صبي السباق، ويتذكر كيف لاحقا الشاحنات، ووصولهما إلى بلكور، و»مرسو» بجسد قوي فتي يحمل «صاحبه إلى أقصى درجات الفرح الجسدي» وتطرق الكاتب إلى حديث «مرسو» مع صاحب المطعم الشعبي حيث الذباب واصطفاق الصحون، وهرج الأحاديث.. ونتعرف أكثر على المعلم «سيليست»(صاحب المطعم) الذي يفضل مرافقة ابنه على الشيوخ..»رونيه» المصدور، ويفصح له «مرسو» عن أمنيته في أن تكون بحوزته تسعة آلاف فرنك ليشتري بيتاً ريفياً، ويضع قليلاً من الدبق على السرّة، وسينتظر ليرى من أين تأتي الريح.
المعلم «سيليست» يدوّن الحساب خلف باب المطبخ، ويلجأ إلى خلع الباب، وحمله على ظهره حين يحتج أحد الزبائن، ويتأمل «مرسو» الأب المتخم بالأغاني وابنه المصدور الهادئ.
بعد موت أمه اضطر «مرسو» إلى تأجير غرفتي البيت الباقيتين، والاكتفاء بواحدة، ومع الوحدة وغياب أمه صار الفقر فظيعاً. يستيقظ متأخراً ويذهب إلى مكتبه بالميناء، ويحقق في وثائق شحن البضائع، ويرى في عمله بابا للخروج إلى الحياة. مساء ينام حتى ساعة العشاء، ويقضي يوم الأحد وحيداً يتأمل الناس وهم يستمتعون بيوم عطلتهم الأسبوعية، جالساً على كرسي يكتفي بالتفرج، يعيش حياة رتيبة باهتة، ونادراً ما يخرج مع «مارت» أو يراسل صديقتيه الصغيرتين في تونس.
يتجول مع «مارت» زميلته التي تضرب على الآلة الكاتبة، وفي السينما تسلم على «زغرو»، تساوره الشكوك في علاقتهما، يبكي غيرة، ويطلب منها أن تدله على كل عشاقها القدامى.

ويتعرف على غريمه... «زغرو» في بيته، يصارحه برغبته في الزواج أو الانتحار أو الاشتراك في مجلة، «باختصار حركة يائسة»، يوضح له العجوز أن هذا نتيجة تفكيره في فقره،
عكس «زغرو» الذي يستأجر من يساعده على قضاء حاجته، ويغسله ويجففه، ورغم ذلك لا يفكر في أية «حركة يختصر بها الحياة التي يؤمن بها...فليس لدينا الوقت إلا لكي نكون سعداء».
لكن رغم ذلك فقد حاول مراراً الانتحار، وبقربه صندوقه الصغير، ورسالته التي يعلن فيها رغبته على الانتحار/ قتل هذا الـ (نصف إنسان)، ويهب ثروته الصغيرة لمن خدموه، ولتحسين نظام المحكوم عليهم بالإعدام.
أحس «مرسو» بالضجر- هذا الضجر الذي يتسرب إلى القراء أيضا، وهنا تتجلى براعة ألبير كامي في رصد العوالم الباطنية- وأن ما بداخله « يشبه زلزالاً من الدموع»، فهو متطرف في شقائه ومغالٍ في السعادة.
وانتابه ألم وحشي عند موت أم جاره، وفي اليوم التالي ارتكب جريمة القتل، ونام حتى العصر، وأصيب بنزلة برد وحمى، قرر أن يغادر الجزائر في اتجاه مرسيليا، ومن ليون أرسل رسالة قطيعة إلى «مارت»، وكتب لها أنه عرضت عليه وظيفة استثنائية في أوربا الوسطى.
بيد أنه لم يتوصل برسالة «مارت» عن ألم الفراق، وينتهي القسم الأول من الرواية، والمعنون بـ «الموت الطبيعي»، لتبدأ فصول القسم الثاني: «الموت الواعي».
يكتري «مرسو» غرفة بفندق براغ الألمانية، يخرج قلق الهندام، بشعر مشعث، غير حليق الذقن، وينظر إلى النساء نظرات قلقة محمومة، يزور مطعما، ويتجول في ليل المدينة القديمة.
في اليوم الثاني، يخرج بشعر مقنفذ، وزرّ ينقص سترته، يزور الأديرة والكنائس، ويجد نفسه بلا وطن... يغادر براغ القاتمة كغيرها من المدن الغائمة، التي تمثل «الوجه الجاحد والقذر للحياة»، مستقلا حافلة في اتجاه فيينا، المدينة المنعشة مفضلا مقاهيها على الكاتدرائية، يكتب إلى صديقتيه الصغيرتين أنه يستمتع بإقامته، فالنساء جميلات وكذلك المناظر، ولا تنقصه غير شمس حقيقية، تكتبان إليه أنهما في الجزائر، ومعهما صديقة ثالثة، وتدعوانه للرجوع إلى الجزائر.
وفي «البيت أمام العالم» كما يسمونه، يتشمس الأربعة.. الصديقات الثلاث: كاترين، روز، كلير، وبرفقتهن «ماتريس». كائنات شابة قابلة للسعادة، يتبادلون شبابهم ويحتفظون بالأسرار... أحيانا، يسأم القارئ بعض الشخوص الثانوية، وقد استأثرت بحيز كبير في الرواية، حيث يصف كامي حياة هؤلاء المراهقين.
يتعرف «مرسو» على «لوسيان» التي ينقصها الذكاء، ويحس أن هناك شيئا إلهياً في الجمال الخالي من الفكر، وأن ما يشده إليها أنها تتأبط ذراعه وتتعلق بثيابه.
يقيم «مرسو» مشروعه في الجزائر، ويتوق إلى حياة الاستقلال.. يقرر «ماتريس» مغادرة «البيت أمام العالم» إلى بلده حتى لا يحب الجزائر، وهذا سيمنعه من أن يعيش سعيداً، ويصارح «كاترين» التي تحبه: «لا تنتظري الحياة من رجل فقط كما تخطئ الكثير من النساء، بل أن تنتظرها من ذاتها...».
وهنا يكشف الكاتب عن مفهوم آخر للسعادة يختلف عن رؤية «مرسو» و»زغرو».في عزلته بجبل شنوة، يشيد «مرسو» بيته الجديد، ويحس أنه أدرك الوحدة التي طالما تمناها، فلا يجاوره غير الليل والبحر، ولم يقاوم وحدته، وكاتب «لوسيان» ليقطع وحدته، واندهشت لحفاوته، لأنها تحس أنه لا يحبها.
تغادره بعد اللقاء، ويعود لزيارة بيته القديم وصاحب المطعم، ويقابل «مارت»، وتأمل أن يلتقيا مرة أخرى.
يغوص «مرسو» في المجتمع المخملي وهو غير سعيد، ولا يهتم بالصغيرات الثلاث عند وصولهن... وتسأله «كاترين» العاشقة المهجورة: هل تحب زوجتك؟ فيرد عليها بأن «ما يهم هو إرادة السعادة، نوع من الوعي الهائل الحاضر أبدا»، أما النساء والأعمال الفنية والنجاحات الدنيوية فليست سوى ذرائع.
لقد كان يحتاج إلى الرحيل، وكسب وحدته، وليس الشمس والدموع (مثل كاترين).. ويجزم بأنه ما دام «بشريا فهو سعيد».
يحس «مرسو» بالإعياء وتنصحه «كلير» بأن يعود إلى فرنسا، ويعيش في الجبال.
لكن القارئ يدرك أن معاناته والشعور بالذنب لارتكابه جريمة قتل، وليس عدم استطاعته تحمل رطوبة الجو، يسبح في البحر ليلاً ويتخيل «زغرو»، ويدرك الطبيب أن معاناته نفسية، فينصح الزوجة أن تتركه وحيداً.
في لحظاته الأخيرة فكر أنه بموته سترتمي زوجته في حضن رجل آخر...ولفظ أنفاسه الأخيرة، وهي بجانبه، وقد صار «حجرا بين الأحجار،عاد في فرحة قلبه إلى حقيقة الأشياء الجامدة». «الموت السعيد» رواية جسدت ببراعة وفنية عالية الشخصية المتأزمة القلقة للإنسان المعاصر، والباحث العنيد عن السعادة والصفاء الداخلي وعن الحب أيضا. وقد حاول ألبير كامي أن يبسط فكرة السعادة، التي اختلف حولها الفلاسفة، ولم يقدمها مثل بعض الكتاب العرب - سامحهم الله- في رواياتهم العاطفية، حيث يرون بأن الحب هو السعادة، والسعادة هي الحب في كتاباتهم التي تخدر العقول والمشاعر، فالحياة ليست مجرد قبلات وأحضان، والسعادة ليست وصفة طبية تصرف في أقرب صيدلية حب !!
«الموت السعيد»...نص عميق يدفعنا إلى التفكير في مفاهيم كثيرة.
Kommentare